كان البحث عن طريقة لترتيب العناصر بصورة تعكس التشابه في خصائصها مدار بحث الكيميائين بشكل دائم، ففي الجدول الدوري الحديث تترتب العناصر تصاعدياً بالاعتماد على عددها الذري (العدد الذري: هو عدد البروتونات في نواة الذرة)، ولكن الجداول القديمة كانت تعتمد الأوزان الذرية النسبية في ترتيب العناصر، وذلك لأنّ فكرة تكون الذرات من جزيئات صغيرة هي البروتونات والنيوترونات والإلكترونات لم تكن قد نشأت بعد، ومع ذلك فإنّ المبدأ الأساسي في الجدول الدوري الحديث كان راسخاً وقد استخدم في توقع خصائص العناصر غير المكتشفة قبل تطور مفهوم العدد الذري بزمن طويل.
سنحاول في هذا المقال الإبحار في تاريخ الكيمياء للتعرف على بداية الجدول الدوري والكيفية التي تطور بها على يد كبار العلماء وعلى مدى القرنين الماضيين.
نشوء الجدول الدوري
لو طرحنا السؤال التالي: من الذي وضع الجدول الدوري؟ فبالتأكيد ستكون إجابة أغلب الكيميائيين: ديميتري مندلييف. بكل تأكيد فإنّ مندلييف هو أول من نشر نسخة الجدول الدوري المعروفة لدينا اليوم، ولكن هل يستحق مندلييف كل هذه الشهرة؟
لقد درس العديد من الكيميائيين قبل مندلييف أنماط الخصائص للعناصر المعروفة في عصرهم، وكانت أولى المحاولات لتصنيف العناصر سنة 1789 حين صنف أنتوان لافوازييه العناصر بالاعتماد على خصائصها إلى: الغازات، اللافلزات، الفلزات، والترابيات.
وفي العقود التالية ظهرت العديد من المحاولات لتجميع العناصر مع بعضها، ففي سنة 1829 تمكن جوهان دوبرينير من التعرف على ثلاثيات من العناصر تمتلك خواص كيميائية متشابهة، مثل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم، وبين كذلك أن خواص العنصر الأوسط يمكن توقعها من خواص العنصرين الآخرين.
سنة 1860 وفي مؤتمر في مدينة كارلسروه الألمانية ظهرت أول قائمة دقيقة للأوزان الذرية للعناصر، وكانت هذه خطوة حقيقية باتجاه إيجاد الجدول الدوري الحديث.
ألكسندر إميل بيغواير دي-كانكورتوي Alexandre-Emile Béguyer de Chancourtois
هل يحق لفرنسا أن تطالب بالجدول الدوري الأول؟ على الأرجح كلا، ولكن البروفيسور الفرنسي في علم الأرض حقق تقدماً واضحاً باتجاه ذلك، مع أن قلة من الناس قد تنبهوا لذلك.
كان ألكسندر إميل بيغواير دي ـ كانكورتوي عالماً جيولوجياً، ولكن العلماء في ذلك الوقت كانوا أقل تخصصاً مما هم عليه الآن. كانت مساهمته الأساسية في الكيمياء هي (اللولب التلوري) وهو ترتيب ثلاثي الأبعاد للعناصر التي تشكل البنية الأولى للتصنيف الدوري، وقد نشر هذا العمل سنة 1862.
تظهر الأوزان الذرية للعناصر في اللولب التلوري خارج الأسطوانة، حيث تعادل دورة واحدة زيادة بمقدار 16 في الوزن الذري. وهذا الترتيب ـ كما يظهر في الشكل ـ يعني أنّ بعض العناصر ذات الخواص المتشابهة تظهر في خط عمودي، ومع أنّ اللولب التلوري لم يظهر بشكل صحيح جميع العلاقات بين العناصر المعروفة في ذلك الوقت، إلا أن دي-كانكورتوي يعد أول من استخدم الترتيب الدوري لجميع العناصر المعروفة ليبين بذلك أن العناصر المتشابهة تظهر في أوزان ذرية دورية.
جون نيولاندز John Newlands
عالم بريطاني الجنسية لاحظ ـ قبل أن ينشر مندلييف جدوله الدوري بأربع سنوات ـ أن هناك تشابهاً بين العناصر التي تختلف في وزنها الذري عن بعضها البعض بمقدار 7، وقد سمى هذه الظاهرة بقانون الثمانيات (Octaves)، في مقارنة بينها وبين الثمانيات الموسيقية.
لم تكتشف الغازات النبيلة (الهيليوم، النيون، الآرغون.. الخ) إلا بعد مدة من الزمن، والتي فسرت سبب وجود دورية سباعية وليست ثمانية في جدول نيولاندز.
لم يترك نيولاندز أي شواغر في جدوله لأي عناصر غير مكتشفة، وقد اضطر في بعض الأحيان إلى حشر عنصرين في موقع واحد للحفاظ على النمط المتبع، لذلك، رفضت الجمعية الكيميائية نشر ورقته البحثية، حيث علق البروفيسور فوستر على عمله بأنه ربما رتب العناصر أبجدياً وبشكل جيد.
وعندما نشر مندلييف جدوله الدوري، طالب نيولاندز بحق اكتشاف الجدول قبل مندلييف، إلا أنّ الجمعية الكيميائية لم تدعمه في ذلك، ولكنها وفي سنة 1884 وجهت دعوة لنيولاندز لتقديم محاضرة حول القانون الدوري كتعويض شرف.
في سنة 1998 ارتأت الجمعية الملكية للكيمياء أخيراً ان تضع لوحة تذكارية زرقاء على حائط مسقط رأسه، تثميناً لاكتشافه للجدول الدوري.
يوليوس لوثار ماير Julius Lothar Meyer
تدرب ماير في جامعة هايدلبرغ على يد بنزن وكيرشوف، كما هو الحال مع مندلييف، وهذا يعني أنّ العالمين يعرفان بعضهما بكل تأكيد، مع أنهما لم يكونا على علم بما قام به الآخر من أبحاث.
تعود جذور ماير إلى ألمانيا، وهو يكبر مندلييف بأربع سنوات فقط، وقد أوجد العديد من الجداول الدورية بين 1864 و 1870.
احتوى جدوله الأول على 28 عنصراً فقط، مرتبة حسب تكافؤها (أي عدد الذرات الأخرى التي يمكن أن يرتبط بها العنصر)، وكل هذه العناصر كانت من مجموعة العناصر الرئيسية تقريباً، ولكن في 1868 أضاف ماير الفلزات الانتقالية، مكوناً جدولاً أكثر تطوراً بكثير، وقد رتب العناصر في هذا الجدول حسب أوزانها الذرية، مع ترتيب التكافؤ المتشابه في خطوط عمودية، بشكل مشابه لجدول مندلييف، ولسوء الحظ لم ينشر عمل ماير هذا حتى سنة 1870، أي بعد عام من نشر مندلييف لجدوله الدوري. وحتى بعد سنة 1870، فإن ماير ومندلييف لم يكونا على علم بأبحاث بعضهما البعض، إلا أنّ ماير اعترف لاحقاً بأن مندلييف قد نشر نسخته من الجدول الدوري أولاً.
ساهم ماير في تطور الجدول الدوري بطريقة أخرى، حيث كان أول من تعرف على النزعات الدورية في خواص العناصر، ويظهر المخطط النمط الذي رآه ماير في الرسم البياني بين الحجم الذري والوزن الذري للعنصر.
في الجزء الثاني من هذا المقال، سوف نكمل هذه الرحلة الممتعة في تاريخ الجدول الدوري، وسنتعرف على كيفية ظهور الجدول الدوري الحديث إلى الوجود.
3Comments
مقالة جميلة :)
ماشاء الله تبارك الله
مقالة جميلة جدا جدا جدا جدا جدا جدا جدا جدا جدا